فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاحُ نسائهم وأكلُ طعامهم على ما يأتي بيانه في المائدة وضَرْبُ الجِزْية عليهم؛ على ما يأتي في سورة براءة إن شاء الله.
واختلف في الصابئين؛ فقال السُّدّي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقاله إسحاق بن رَاهَوَيْه.
قال ابن المنذر وقال إسحاق: لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم.
وقال الخليل: هم قوم يُشْبه دينُهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب؛ يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام.
وقال مجاهد والحسن وابن أبي نَجِيح: هم قوم تركّب دينهم بين اليهودية والمجوسيّة، لا تؤكل ذبائحهم.
ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم.
وقال الحسن أيضًا وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكة ويصلّون إلى القِبلة ويقرأون الزّبور ويصلّون الخمس؛ رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة.
والذي تحصّل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا أنهم مُوَحّدون معتقِدون تأثير النجوم وأنها فعالة؛ لهذا أفتى أبو سعيد الإصْطَخْرِيّ القادرَ بالله بكفرهم حين سأله عنهم. اهـ.

.قال الفخر:

.فائدة: المراد بقوله تعالى: {عِندَ رَبّهِمْ}:

أما قوله تعالى: {عِندَ رَبّهِمْ} فليس المراد العندية المكانية، فإن ذلك محال في حق الله تعالى ولا الحفظ كالودائع بل المراد أن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند ربهم.
وأما قوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فقيل: أراد زوال الخوف والحزن عنهم في الدنيا ومنهم من قال في الآخرة في حال الثواب، وهذا أصح لأن قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} عام في النفي، وكذلك: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذه الصفة لا تحصل في الدنيا وخصوصًا في المكلفين لأنهم في كل وقت لا ينفكون من خوف وحزن، إما في أسباب الدنيا وإما في أمور الآخرة، فكأنه سبحانه وعدهم في الآخرة بالأجر، ثم بين أن من صفة ذلك الأجر أن يكون خاليًا عن الخوف والحزن، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائمًا لأنهم لو جوزوا كونه منقطعًا لاعتراهم الحزن العظيم. اهـ.

.سؤال:

فإن قال قائل: إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صالحا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يحزنون} [المائدة: 69] وفي سورة الحج: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17] فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع {الصابئين} في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك؟
والجواب: لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلابد لهذه التغييرات من حكم وفوائد، فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

رُوِيَ عن ابن عباس أن قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية.
منسوخ بقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية.
وقال غيره: ليست بمنسوخة.
وهي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبيّ عليه السلام. اهـ.

.قال في التسهيل:

{والصابئون} قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة رضي الله عنها- هي لحن من كتاب المصحف. اهـ.

.قال في روح البيان:

اعلم أن هذا الدين الحق حسنه موجود في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد فكل مولود إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين فلو ترك عليها استمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها كما قال عليه السلام: «ما من مولود إلا وقد يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» قال ابن الملك في شرح المشارق: المراد بالفطرة قولهم بلى حين قال الله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] فلا مخالفة بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا» والتحقيق إن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من ظهره وقال: ألست بربكم آمنوا كلهم لمشاهدتهم الحق بالمعاينة لكن لم ينفع إيمان الأشقياء لكونهم لم يؤمنوا من قبل فاختلط السعيد والشقي ولم يفرق بينهما في هذا العالم ثم إنهم إذ أنزلوا في بطون الأمهات تميز السعيد من الشقي لأن الكاتب لا ينظر إلى عالم الإقرار بل ينظر إلى ما في علم الله تعالى من أحوال الممكن من السعادة والشقاوة وغيرهما وإذا ولدوا يولدون على فطرة الإسلام وهي فطرة بلى فههنا أربعة مقامات:
الأول: علم الله وهو البطن المعنوي ويقال له في اصطلاح الصوفية بطن الأم وأم الكتاب.
والثاني: مقام بلى ويقال له مولود معنوي.
والثالث: بطن الأم الصوري.
والرابع: مولود صوري وهو صورة المولود المعنوي لذلك لا يتميز السعيد من الشقي فيه كما لا يتميز في عالم ألست والبطن الصوري صورة علم الله لذلك يتميز السعيد من الشقي فيها فظهر لك معنى حديث النبي عليه السلام: «السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه» ومعنى الخبر الآخر «السعيد قد يشقى والشقي قد يسعد» ومعنى الحديث: «كل مولود يولد على فطرة الإسلام» كذا حققه الشيخ بالي الصوفيوي قدس سره. اهـ.

.قال السمرقندي:

ولم يذكر في الآية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما ذكر الإيمان بالله تعالى فقد دخل فيه الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يكون مؤمنًا بالله تعالى ما لم يؤمن بجميع ما أنزل الله تعالى على محمد وعلى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قال: من آمن بالله وبما أنزل على جميع أنبيائه وصدق باليوم الآخر. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وقال في المائدة: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وفى سورة الحج: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله بفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}.
فيها أربع سؤالات: تقديم النصارى في سورة البقرة وتأخيرهم في المائدة وتخصيص آية البقرة بقوله تعالى: {فلهم أجرهم عند ربهم} ورفع {الصابئون} في المائدة ولم يتبع وانفراد سورة الحج بسياقها وزيادة ذكر المجوس والذين أشركوا.
فأقول وأسأل الله توفيقه: إن المؤمنين أحق بالتقديم وهم أهل الخطاب والمتكلم معهم في الآى قبل، فهم من حيث أحوالهم معظم من قصد بالخطاب والتأنيس ثم إن أهل الكتابين يلون المؤمنين فإنهم ليسوا كافرين بكل الرسل ولا منكرين بكل الرسل ولا منكرين لكل ما أنزل من الكتب فقد كانوا أقرب شيء لولا التبديل والتغيير والتحريف المقدر وقوعه عليهم، فإنهم قد قدم إليهم فنكثوا ونقضوا وكفروا بمن قدم إليهم من أمره، واليهود أقدم تعريفا وأسبق زمانا فلما اجتمع الأصناف الثلاثة في أنهم أهل الكتاب والمقرون بالبداءة والعودة وإرسال الرسل على اختلاف حالاتهم في ذلك وأزمانهم كان تقديمهم على غيرهم أوضح شيء على الوارد في سورة البقرة إلا أن ذكرهم لم يقع بحرف مرتب بل وقع الاكتفاء يترتيب الذكر لاستوائهم في الغايات من استواء العواقب وإن الفائز من الكل إنما هو من كانت خاتمته في دار التكليف الموافاة على الإيمان والإسلام وإن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن الموافى في الكل على المفر والكفر في النار ثم عذابهم بحسب جرائمهم جزاء وفاقا فرتبوا ذكرا بحسب حالهم الدنياوى ولم يتقعد الترتيب بالحرف المرتب لحظا لحالهم الاخراوى فجرى ذكرهم في سورة البقرة على هذا وأخر ذكر الصابئين لتأخرهم عن هؤلاء الأصناف في أنهم ليسوا من أهل الكتاب أو ليسوا مثلهم في ما وراء ما ذكر من أحوالهم فإيراد ذكرهم على ما في سورة البقرة بين، ثم قدم ذكر الصابئين في سورة المائدة وزيادة بيان للغرض المذكور من أنه لا ترتيب في الغاية الأخراوية إلا بنظر آخر لا بحسب الدنياوى والاشتراك فيما قبل الموافاة بل المستجيب المؤمن من الكل مخلص والمكذب متورط ثم مراتب الجزاء بحسب الأعمال فأوضح تقديم ذكر الصابئين في سورة المائدة ما ذكرناه فإن قلت لم لم يقدم ذكرهم على الكل؟ قلت: لا وجه لهذا لمكانة المؤمنين وشرفهم فإن قلت فهلا قدموا على يهود قلت: قد كانت يهود أولى الناس بأن يكونوا في رعيل من المستجيبين ومعهم جرى الكلام قبل هذا نعيا عليهم وبيانا لمرتكباهم ولعظيم ما جرى على من لم يؤمن منهم وترددت فيهم عدة آيات وذلك مما يوجب تقديم ذكرهم على من عدا المؤمنين.
فإن قلت فالنصارى مثلهم: قلت النصارى أقرب إلى الصابئين من حيث التثليث وسوء نظرهم في ذلك وتصورهم ثم إنهم لم يجر لهم ذكر فيما تقدم هذه الآية بخلاف يهود فبان من هذه الجهة تقديم يهود عليهم وإن كان يهود شر الطائفتين.
السؤال الثانى: وهو ورود اسم الصابئين في المائدة بالرفع والجواب عنه أنه لما ورد مرفوعا تنبيها على الغرض المذكور وتأكيدا للتسوية في الحكم وإذا اتفقوا في الموافاة على الإيمان فنبه التقديم على هذا كما تقدم وزاد القطع على الرفع تأكيدا لأن قطع اللفظ عن الجريان على ما قبله محرك للفظ توجيهه عند سيبويه رحمه الله مقدم من تأخير وكأنه لما ذكر حكم المذكورين سواهم قيل والصابئون كذلك أى لا فرق بين الكل في الحكم الأخراوى وهو على هذا التقدير أوضح شيء فيما ذكر، وأما على طريقة الفراء ومن قال بقوله من حمله على الموضع ففيه التقديم وأن التحريك القطعى في اللفظ وإن لم يكن مقطوعا في المنعنى لا يكون إلا لإحراز معنى وليس إلا ما تقدم.
والجواب عن السؤال الثالث: إن قوله تعالى في سورة البقرة: {فلهم أجرهم} قد تقدم في المائدة ما يعطيه ويحرزه فاكتفى به ألا ترى أن قوله تعالى: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} تفسير بين للأجر الاخراوى المجمل في قوله تعالى في سورة البقرة: {فلهم أجرهم عند ربهم} إلى آخر الآية فقد حصل ما في سورة المائدة مفصلا مبينا ما ورد في البقرة مجملا فلو قيل في آية المائدة فلهم أجرهم لكان تكرارا ورجوعا إلى الإجمال بعد التفصيل وذلك عكس ما ينبغى.
والجواب عن السؤال الرابع: أن آية سورة الحج إنما وردت معرفة بمن ورد في القيامة على ما كان من يهودية أو نصرانية أو غير ذلك والآي الآخر فيمن ورد مؤمنا فافترق القصدان واختلف مساق الآى بحسب ذلك. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} وقال في الحج {وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} وقال في المائدة {وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} لأَنَّ النصَّارى مقدَّمون على الصَّابئين في الرُتْبة؛ لأَنهم أَهل الكتاب؛ فقدَّمهم في البقرة؛ والصَّابئون مقدَّمون على النصارى في الزمان؛ لأَنهم كانوا قبلهم فقدَّمهم في الحج، وراعى في المائدة المعنيين؛ فقدَّمهم في اللفظ، وأَخرهم في التقدير؛ لأَن تقديره: والصّابئون كذلك؛ قال الشاعر:
فمن كان أَمسى بالمدينة رَحْلُه ** فإِنى وقَيَّارٌ بها لغرِيب

أَراد: إِنى لغريب بها وقيَّارٌ كذلك.
فتأَمّل فيها وفى أَمثالها يظهر لك إِعجاز القرآن. اهـ.

.قال الخطيب الإسكافي:

قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم} وقال في سورة المائدة: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم} [المائدة: 69]. وقال في سورة الحج: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة} [الحج: 17].
للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الفرق وتأخيرها ورفع الصابئين في آية ونصبها في أخرى غرض يقتضي ذلك؟
الجواب أن يقال: إذا أورد الحكيم تقدست أسماؤه آية على لفظة مخصوصة، ثم أعادها في موضع آخر من القرآن، وقد غير فيها لفظة كما كانت عليه في الأولى فلابد من حكمة هناك تطلب، فإذا أدركتموها فقد ظفرتم، وإن لم تدركوها؟ فليس لأنه لا حكمة هناك بل جهلتم. فأما الآية الأولى في هذه السورة، فإن فيها مسائل ليست هذا المكان مكانها، لأنه يقال: كيف قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا} {من آمن بالله واليوم الآخر} أي: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، إلا أن الذي نذكره في هذا المكان هو أن المعنى: إن الذين أمنوا بكتب الله المتقدمة مثل صحف إبراهيم، والذين آمنوا بما نطقت به التوراة وهم اليهود، والذين آمنوا بما أتى به الإنجيل وهم النصارى، فهذا ترتيب على حسب ما ترتب تنزيل الله كتبه، فصحف إبراهيم عليه السلام قبل التوراة المنزلة على موسى عليه السلام والتوراة قبل الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام فرتبهم- عز وجل- في هذه الآية على ما رتبهم عليه في بعثة الرسالة، ثم أتى بذكر {الصابئين} وهم الذين لا يثبتون على دين، وينتقلون من ملة إلى ملة، ولا كتاب لهم، كما للطائفتين اللتين ذكرهما الله تعالى في قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام: 156]، فوجب أن يكونوا متأخرين عن أهل الكتاب، وأما بعد هذا الترتيب فترتيبهم في سورة المائدة وتقديم الصابئين على النصارى ورفعه هنا ونصبه هناك ترتيب ثان، فالأول على ترتيب الكتب، والثاني على ترتيب الأزمنة، لأن الصابئين وإن كانوا متأخرين عن النصارى بأنهم لا كتاب لهم، فإنهم متقدمون عليهم بكونهم قبلهم، لأنهم كانوا قبل عيسى عليه السلام فرفع {الصابئون} ونوى به التأخير عن مكانه كأنه قال بعد ما أتى بخبر {إن الذين آمنوا والذين هادوا}، {من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} والصابئون هذا حالهم أيضًا، وهذا مذهب سيبويه، لأنه لا يجوز عنده، ولا عند البصريين وكثير من الكوفيين: إن زيدًا وعمر وقائمان، والفراء يجيز هذا على شريطة أن يكون الاسم الأول المنصوب بأن لا إعراب فيه، نحو: إن هذا وزيد قائمان، وهذه من كبار المسائل ذوات الشعب، ويتعلق بالخلاف بين البصريين والكوفيين في أن لها عملين النصب والرفع على مذهب البصريين، وأن لها عملًا واحدًا عند الكوفيين وهو النصب، إلا أن المذهب الصحيح ما ذهب إليه سيبويه، وهذه الآية تدل عليه، لأنه قدم فيها الصابئون، والنية بها التأخير على مذهب سيبويه، وإنما قدم اللفظ وأخر في النية، لأن التقديم الحقيقي التقديم بكتبه المنزلة على أنبيائه- عليهم السلام-، فلذا فعل ذلك في الآية الأولى، وكان هاهنا تقديم آخر بتقديم الزمان، وجاءت آية أخرى قدم فيها هذا الاسم على ما أخر عنه في الآية التي قبل، ثم أقيمت في لفظه أمارة تدل على تأخره عن مكانه كان ذلك دليلًا على أن هذا الترتيب بالأزمنة، وأن النية به التأخير والترتيب بالكتب المنزلة، وأما الترتيب الثالث في سورة الحج: فترتيب الأزمنة التي لا نية للتأخير معه، لأنه لم يقصد في هذا المكان أهل الكتب إذ كان أكثر من ذكر ممن لا كتب لهم وهم: الصابئون والمجوس والذين أشركوا عبدة الأوثان، فهذه ثلاث طوائف وأهل الكتاب طائفتان، فلما لم يكن القصد في الأغلب الأكثر من المذكورين ترتيبهم بالكتب رتبوا بالأزمنة، وأخر الذين أشركوا، لأنهم وإن تقدمت لهم أزمنة، وكانوا في عهد أكثر الأنبياء الذين تقدمت بعثتهم صلوات الله عليهم، فإنهم كانوا أكثر من مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وصلى بجهادهم، وكأنهم لما كانوا موجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أهل زمانه، وهذا الزمان متأخر عن أزمنة الفرق الذين قدم ذكرهم. اهـ.